رحلة العودة ٢ سيؤن
بعد العودة من مطار سيؤن بخُفيّ حُنين ، لا سفر ولا نقود ، رجعتُ الى فندق الطويلة لا ألوي على شئ ، افكر في الخروج من هذا المحك .
السلام عليكم اخي أحمد .(موظف استقبال في الفندق)
رد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، خيرٌ ، ألم تسافر ؟!
قلت : بلى.
وطلبت منه خدمة ، بأن يأخذَ تذكرة السفر ويعطني عوضها نقدا ويطالب بها هو لاحقا من المطار .فوافق مشكورا ، الناسُ أخْيَافٌ وشَتّى في الشِّيَمِ .
خرجت الى محطة سيارات الأجرة (الفرزة) سيؤن تريم ومنها الى الغيضة ( المهرة)
وقف اربعة رجال ممن كانوا معي في المطار ، اثنان منهما من ساحل حضرموت ، ومن الشحر بالتحديد ، وهما شابين في مقتبل العمر، وآخَرِان من شمال اليمن لباسهم معروف وان كان لا يناسب حرارة ولهيب صيف وادي حضرموت الجاف.
وصلنا الى تريم ونتظرنا على الطريق الخارج من تريم الى قرى ظاهرة ممتدّة على طول الطريق شرقاً (القوز ، قاهر ، القرية، عِينات،قَسْم ، السوم).
حانت الساعة الثانية بعد الظهر ، انتظار ثم انتظار ، اعيائنا التعب وكتوينا باللهب ، وبينما نحن كذلك تاتي شاحنة ١٠ طن، محملة فوق طاقتِها القصوى بأسطوانات الغاز ( غاز الطبخ) ، قال احدهم للسائق : الى اين ؟
أجاب الى الغيضة، طيب معاك يا اخي وسندفع لك الف ريال لكل راكب.( هناك خلف معقد السائق مجال للجلوس يسع الستة من الرجال) .
السائق : اسف محجوز ، وانطلق .
لم نحزن كثيرا على ذلك ، الأمرين هما : خطورة الحمولة وبطئ حركة الشاحنة.
الساعة الرابعة عصرا ، اقترح احد المشاة بعدما سألناه، هل هناك فعلا مواصلات الى المهرة من هذا المكان؟ فقال: اذهبوا الى اخر قرى تريم شرقا وهي السوم فهي المنطقة الأمثل ، وكُلُ خارج منها الى المهرة لا محالةَ ذاهبُ . ( طريق ثمود رماة لم تكن حينها).
اتفقنا ان نفترق على قارعة الطريقة كل زوجين اثنين . دقائق وقفت سيارة تويوتا هيلكس( بيكب)، متجهة الى السوم ، وفي طرفة عين نتكالب عليها وكأنها فريسة ، البعض كان مسافر خفيف يحمل كيساً عليه علامة كمران ( منتج التبغ).
تعرفت على الشابين الشحريين اكثر ، قالا أنهما يقصدان منطقة محيفيف الساحلية بالذات (الغيضة) بحثا عن عمل ، فإنهما خبيران بشؤون البحر والصيد.
وصلنا السوم بعد صلاة العصر . السوم قرية صغيرة يعمل اهلها بالزراعة ، وبينما نحن ننتظر ، اقبلت سيارة لاند كروزر استيشن ، ألاحَ أحدهم بيده محاولا إيقافه ، فنظر الى اشكالِنا ( اشكال العَبْرِيَه) وبدون ان ينبس بكلمة واصل طريقه وقد عبر عن رفضه بإنطلاقةٍ أثارت الغبار بما فيه ، يقول ابوالعلاء:
كم قُذِفَت عِرسُ بائسٍ بحصًى،
كلُّ حصاةٍ منها نظيرُ جبل.
شربت الشاي في مقهى صغير وأذ بشاحنة ذي العشرة أطنان تصل ، هي ذاتها مرت علينا في تريم . هذه المرة ذهبت انا للتفاوض مع السائق الشاب ذو الخد المنتفخ جانبه، وفي قرارة نفسي أن الخروجَ من هذه القرية امرٌ لا محيص عنه ، فقد بدات السوم لي كقرية اشباح موحشة لهدوئها، وقد اختفى معظم سكنها وخاصة قبل غروب الشمس بقليل.
اعتذر السائق بعدم وجود مكان . قلت له وأنا انظر الى الاسطوانات التي قد صفت كالهرمِ : سأجدُ لنفسي مكان على هذا الهودج، فكر السائق قليلاً ، ثم قال وهو يظن انني سأعدل عن فكرتي : هل ستدفع ٧٠٠ ريال؟
قلت : لا يهم طالما اغادر هذه القرية وللسان الحال يقول : لا يهُمُّ الرياحْ زورقٌ غضبان .
صعدتُ السلالمَ الجانبيه محاولا الوصول الى القمة . تبعني البقية بالطلوع . والتحق بينا راكب خامس وتظهر عليه علامات الخبل و الجنون ، ولم يك كذلك وإنما هي حيلة لركوب دون نَوَّل* ملاحمه شمال الشمال .
سائق الشاحنة نَبْه و حذّر الجميع ، بأجراءات السلامة ، التدخين ممنوع طيلة الرحلة ، تحسبا لتسرب الغاز اثناء الرحلة ، انه البروبان والبوتان، سريعا الاشتعال، قويا الانفجار، وافق الجميع .
الاخوة من شمال اليمن اختاروا مقدمة الشاحنة حيث السلة التي تكون فوق سائق السيارة وهو الافضل. اما انا فكان مكاني في المنتصف ، اعلى الهرم ، وهناك سلسلة حديدية إنها الوِثًاقُ لتلك الاسطوانات ، ساتشبث بها وكأنها الحَقَبُ* ، وفي زوايتيّ الشاحنة الخلفية جلسَ الشابان.
لا انكر الجميل الذي قدّمَاهُ لي في تهيئة المكان ببعض الكراتين ، فجزاهما الله خيرا .
انطلقت الشاحنة من سهلٍ الى وادي على طريق ترابي غير ممهد ( وادي فقمة و وادي سعف ) سلكَ بينا كل الطرق ، نِبَاكٌ وقفافْ* مُضلةٌ ومتيهةٌ* ، بُرْقَةٌ ومَحْصبَةٌ.* فلا تسال حينها عن حال المسافرين في درجة الاعمال او السياحية بين تلك الاسطوانات ، فأمَّا صحِابى الشحرِ قد تاذوا كثيرا ، يظنان أنهما يجلسان في القارب (في القارب يعتبرالمكان الخلفي هو الأمن والأفضل) و لم يدرِكا ما سيؤول اليه الحال ، ولذا قررا ان يُدخْيِنا، وكذلك حال الشماليان فقد بدا خرق القوانين وإجراءات السلامة . الأبله الذي يجلس قريبا مني تقيأ مرةً او مرتين ، ولم ادعه يفعل دون ان امسك رجيله وارسل راسه يتدلى الى الاسفل تحرزا مما يُرجِعهُ. فلا تسأل عن الهتزاز والارتطام طوال الرحلة ، فرغم وعورة الطريق فالسائق منتشي بما يمضغه من قات ولم يبالي بما عليه الآخرين.
في منتصف الليل وقفت الشاحنة ، وصلنا منطقة .... انه مطعم صغير جدا في الفلاة ، قال السائق : انزلوا انها استراحة ، كلوا واشربوا. في الاستراحة عامل واحد فهو من ياخذ الطلبات ويطهو الطعام ،انتظر دوري على كرسي خشبي متهالك يهتز و لا يستقر على قرار.
قال: تفضل .
قلت : ما لديك ؟
قال: بيضٌ وكبدةٌ .
قلت: جميل اعطني كبدة .
لحظات وياتي الطلب ، الكبدة ليست كالكبدة كما اعهدها ، قِطعٌ صغيرة سوداء اللون ، جافه غير طرئه وقويه، قُطِعَتْ على كل اشكال الهندسية( مثلث ، مربع ، مستطيل، معين) ، حاولت مضغها قبل بلعها ، ولكنها تأبى ، فاضطر الى سرطِها . حمدتُ الله وذهبت لغسل اليدين في الممر الضيق القصير حيث صنبور الماء(الحنفية) وقد وعُلِقَتْ في أعلاه مرآة مكسورة ولكنها تفي بالغرض . صنبور الماء كان شحيح الانسكاب ، يكاد يبلل اليدين ، نظرت الى المرآه المشققه نظرةٌ عابرة وخفضت راسي ورفعته مرة اخرى ! هل هناك من يقف خلفي؟!! ولم يك احد غيري ! اعيد الكَرَّة ، وادقق النظر ، أهذا انا ؟!!! نعم ، الراس واللحية والشارب قد علاه الرهجُ والقسطل* ،وكأني غطست في طشت من طحين ، انفض عني ذلك الغبار لعلى اتعرف على ملامحي الضائعة من الهَبَاء ، فقد نسيت امر اليدين ، فهناك ماهو أولى بالنظافة.
تستانف الرحلة وكانت الساعة الواحدة فجرا ، ولكن هذه المرة كان الطريق افضل حالا لاننا نعتلي رابية مستويه ، أو لإننا اعتدنا ذلك.
الظلام حالك والجو بارد وماهي الا ساعات قليلة وقفت الشاحنة ونزل السائق واصحابه وقال سننام قليلا في هذا المكان . لم تك الفكرة سيئة نزلنا ، وكان المكان عبارة عن مصلي صغير وخزان ماء حديديٌ مُحْمّر اللون خجلاً، قد أكل الصداء اعلاه ، ومبناء صغير لا يتجاوز المترين طولا يبدو انه زَرْبُ الغنم. اصلي المغرب والعشاء ، وسرعان ما خلدتُ الى النوم رغم رائحة روث الاغنام فهي المهيمنة على المكان ، ولكن النوم سلطان.
قبل بزوغ الفجر الصادق سمعت هدير وقرقرة جملٌ هايج ، إنه محرك الشاحنة يدور ، ويهزُ ارجاء المكان ، فقد حان موعد الرحيل ، وقد آن الاوان نمتطى تلك الدابة الآلية .
صعدنا وكل منا قد اخذ مكانه .
وصلنا بحمد الله مع شروق الشمس . وها هي الغيضة من بعيد تظهر وتختفي ، فقد كانت اشعة الشمس المشرقة تحجب الرؤية (سراب في الأفق) . لا تسأل اخي العزيز عن آثار وعلامات الاعياء والتعب في اليوم التالي فكنتُ كالذي لا حيٌّ فيرجى ولا ميتٌ فيُنسى ،كدماتٌ ، عضدٌ، قصرٌ ، مُذلّت وخدّرت اليدين. ولكنها كانت من اجمل الرحلات والذكريات ولولا المكابدة لدُرِسَت تلك التفاصيل وكما يقال الحياة تجارب، يقول العرب : غَمَرَاتٌ ثُمَّ يَنْجَلِين ، تاتي المحن والشدائد وتنجلي. الى هنا وسنكتفي ، حسبُنا من القلادةِ ما أحاط بالعنقِ.
************
* نول: عطاء مقابل شيء ( كلمة مهرية قلما نسمعها في هذا الجيل وتعني الاجُرة)
* الحقب: حبلٌ يشد به الرَّحل الى بطن البعير.
*النبكة: ارض فيها صعود وهبوط
*القفُ: ما ارتفع من الارض
*المُضِلةُوالمُتِيهةٌ : طرق تضل سالكها فلا معالم لها.
*بُرقةٌ: طريق فيها احجار ورمال
*محصبة: طريق فيها حصى خالص..
*الرهج والقسطل: غبار الحرب.
* الهَبَاء :التراب الذي تطيره الريحُ على وجوه الناس.
* السرط : هو ابتلاع الطعام دون مضغه.( وهو المعنى بالمهرية نفسه).
تعليقات
إرسال تعليق