رحلة العودة ح١ صنعاء
صنعاء.
افقتُ وقد اباحَ الصباحٌ بسرّهِ ، قاصدا وزارة التعليم العالي ، لأجل إعتماد شهادة البكالوريوس التربوي من جامعة حضرموت في العاصمة صنعاء. ظننتُ بأني أول من استيقظ في ذلك الصباح ، واذا بالحياة قد دَبّتْ بهمَّةٍ ونشاطٍ وكأننا في منتصف النهار. الجو مشرق صافٍ ، ورغم شروق الشمسِ إلا أنه لا زالت برودة المساء باسطةٌ هيبتها على العاصمة صنعاء ، ولا غرابة إذ إنها على ارتفاع ٢٣٠٠م عن مستوى سطح البحر . قطعت مايقرب ٥٠٠ مترا مشيا على الاقدام كي أصل الى الشارع الرئيسي من حي التلفزيون ، من هناك تستطيع ان تشتمَّ رائحة فول البرعي المميز تفوح ومن هنا رائحة شواء الذرة الشامية على الجمر ( يعرف بالرومي ) الشوارع ممتلئة بانواع مختلفة من المركبات ، صغيرها وكبيرها ، جديدها وقديمها ، فلا تناسق بينها ، بعضها كأنها هيكلٌ عظمي قد صُوِرَ بلأشعة السينية.
تقف حافلة قديمة (ميكروباص وتسمى الدباب) وينادى احدهم : الستين الستين. ويقصد شارع الستين او الشارع الدائري لا اذكر الان . يتوافد الركابُ واحد تلو الاخر، صعد معنا رجل قصير القامة عراقيُ* الملاح يمني الاصل ، بدينٌ الجسمِ ، مهندمٌ ببنطالٍ ومعطفٍ ورابطة عنق ، على غير ما يرتديه الاخرون ،فالباس اليمني السايد هو الثوب (دشداشة) ومعطف مفتوح الأزرار( الكوت) ويتوسط الخصر حِزام وخنجر صيفاني* ، ويختار ذلكم الرجل المقعد الاخير ، لانه سيكون اخر النازلين على ما يبدو . دقائق وانطلقت الحافلةُ مسرعةً وسط زحام وصيحات من السائقِ لافساح المجال وربما تسمع قليل من الشتايم بين ارباب المواصلات... شوارع واسعة ولكنها تختنق بعشوائية السير ، كيف لا، وسكان العاصمة مليونين وستة مائة ألف نسمة . أخي العزيز ان الحديث عن صنعاء يطول ويطول جدا وليس هذا وقته يقول البردوني :
حَبِيبُ وَافَيْتُ مِـنْ صَنْعَـاءَ يَحْمِلُنِـي
نَسْرٌ وَخَلْفَ ضُلُوعِـي يَلْهَـثُ العَـرَبُ.
صلتُ بحمد الله الى المكان ، وهناك العشرات اذا لم يكونوا المئات من المراجعين بين خارج وداخل. سألتُ احد المراجعين اين يمكن ان أنجز هذه المعاملة فيقول لي الطابق الثاني وأسال عن النونو ( اسم او لقب لاحد الموظفين ) في وزارة التعليم العالي.
دققتُ البابَ واذا برجل يراجع المستندات والوثائق ، لم يكن الزحام عليه كثير ، اتقدم اليه واعرض اوراقي لوسمها باختم المصادقة وختم طبق الاصل على أوراقي ، تطلب الامر اسبوع ذهابا وايابا ، يقول المعري:
أوعِد وعِد، سوف يأتي، بعدنا، زمنٌ
كأنّنا فيه لم نُوعِدْ ولم نَعِد
وفي اليوم الاخير قلت له : ايها النونو انا رجل من اقاصي البلاد وقد تاخرت كثيرا وفي كل تأخير اخسر الكثير .
فقال : اعطني شهاداتك وستدفع على كل بيان درجات ٢٠٠٠ ريال يمني ، فأشرت بالموافقةِ ، وبينما هو يختم الاوراق ، اذ بسيدة في الخمسينات من العمر لا اظنها من اهل اليمن ولكن لكنتها تحكي مصريتها ، واقفةٌ كي تعتمد أوراق إبنها كذلك ، قال لها : هاتِ ماعندكِ و مبلغ رسوم المعاملة ، ولكن السيدة كانت فطينةٌ نبهةٌ حينما قالت اريد ايصال دفع الرسوم ، وياليتها لم تكن كذلك!! ينظر اليها النونو ويقول : ليس عندي ايصال . وكان في رده غيظٌ وحنقٌ على طلب السيدة . ويردف قائلا : هذا لاني متعاون واختصر لكم الاجراءات بدل الذهاب الى قسم المالية والخزنة . ويحتد النقاش ، ولكن السيدة تضطر لتدفع دون ايصال فلا حيلة لها . نظر النونو الي قائلا : انت اذهب لتوقيع المدير العام. فخرجت مسرعا الى الطابق العلوي حيث يقبع مكتب المدير العام،
دفعتُ الباب دخلتُ مستأذناً. مكتبٌ واسعٌ فسيح وفي المقابل يجلس المدير العام وقد اعتلى الكرسي الدوّار واضعا ذراعيه على الطاولة الكبيرة المستطلية ، اتدرون من كان هو ؟!!! الرجل القصير الذي يرتدي بنطال وجاكت ورابطة عنق ، هو ذاك الركب معنا في الحافلة ذي سعة ١٤ راكبا. نعم هو ! (اخوتي الاعزاء دروس التواضع كما رأيت وسمعت في اهل شمال اليمن فصغيرهم كبير وكبيرهم صغير ، وماشهدنا الا بما علمنا .. )
وبينما هو يخط بقلمه على اوراقي دخلَ النونو من باب اخر وبدون ان يهمس في أذن المدير يقول له بلسانٍ عربي فصيح : ستاتيك سيدة تحتاج توقيعا فلا تفعل الا بإيصال دفع !! يهز المدير راسه ( ربما تقول اخي اين التواضع؟! اقول هنا فساد ولا علاقة له بما ذكر قبل) . وينصرف النونو . فرحت لأنني أنجزت ما اتيتُ لأجله ولكني تأسفت على تلك السيدة التى لم تحصل على توقيع واكمال المعاملة جزاءً وفقا على اعتراضها.
رجعت الى السكن مباشرة اشعلت الانوار ولم تكن هناك مفاتيح المراوح ولا المكيف !! فلا تعجب ! فكل بيوت صنعاء ما لم تكون الفنادق الحديثة دون تكييف ولا مراوح فصيفها شتاء ، وشتاؤها شتاء يَقدمُ بكَلْكَلهِ، انها صنعاء عاصمة فريدة تُنْسِيك الاهل والاحباب ، صنعاء لتكون اجمل البقاع الارض بعد الحرمين والاقصى ، تحتاج الى تهيئةٍ فقط ،كما يُقال فرمتة( السوفت وير ) لاهلها وسكانِها بالنظام والقانون.
قلبتُ أوراقي واتأكدتُ من كل الشهادات والختومات ، هذا للتعليم العالي ، وهذه السفارة العمانية في صنعاء .
الحمد لله ، لم يبقَ سوى العودةِ الى المهرة ومنها الى صلالة .
اليوم التالي استقلت سيارة أجرة نوع بيجو من صنعاء الى سيؤن عن طريق خط سافر مرورا بمأرب.. وقد خططت على اختصار المسافة ، وهذه المرة عن طريق خطوط الجوية اليمنية رحلة سيؤن الغيضة وكان ذلك في أواخر التسعينيًّات وعلى مشارف الألفية الثانية.
وصلت المساء الجمعة الى سيؤن و ونزلت في فندق الطويلة على النمط العمارة الحضرمية ، الفندق قريب من قصر سيؤن او قصر الكثيري ، وسوق الحنظل ، اسقف الفندقِ من جذوع الأشجار و النخيل وجدرانه من طين ( المدر) باردٌ اذا رمتِ الشمسُ بجمراتِ الظّهيرة ، ودافئٌ اذا كشَّرَ الشتاءُ عن زمهريره. الشاب الذي يعمل في الفندق اعرفه جيدا فهو احد الطلبة الذين يدرسون في الجامعة كلية التربية المكلا ، فهو يستغل اوقات الاجازة بعمل يعود عليه بالنفع وهذا دأب كل شباب وادي حضرموت فالإجازات تستغلُ لكسبِ المال ، فهذا في البناء وذلك في المقهى والاخر في الاستقبال كحال صاحبنا في الفندق .
حجزت تذكرة السفر ليوم الاحد صباحا. سعر التذكرة ٢٥٠٠ريال يمني وهذا كل ما بقى لدي من مال ، فلا يهمني شئٌ حتى اصل حيث الاهل والاصحاب في الغيضة فهم الذخر والرصيد الذي لا تعقبه رسالة ( رصيدك غير كافٍ لإجراء محادثة ) واذا ما طلبت الروح رخيصة عندهُمُ ،واذا ما ناديت وصلوا قبل النداءِ والصوتِ.
صبيحة الاحد وبعد صلاة الفجر ، انتظرت سائق التاكسي الذي اتفقت معه لياخذني الى مطار.
وبينما نحن في صالة الانتظار اذ تاتي الاخبار ، كما يقول طرفة بن العبد:
ستُبْدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ،
ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوِّدِ،
لا وجود للرحلة البتة !!! عجيب ! وما العمل ؟
قال احد موظفيِّ المطار( وبعد انتظار لساعات): رحلة جدة سيؤن سيؤن الغيضة ألغيت . وكنا مجموعة من المسافرين قال احدهم : ايه يا عم ؟! فرد الموظف : توكلوا على الله !
قال اخر المسافرين : ونعم بالله .
ولكن الصدمة بأن إسترجاع المبلغ لا يمكن الا بعد فترة الظهيرة او غدا لعدم وجود سيولة ، والله المستعان ، لا رحلة ولا نقود !!. يتبع في الحلقة قادمة...
________________
*عراقي الملاح: لا ادري لماذا اخترت هذا الوصف ربما لتشابه البنية والهيئة والبشرة لاهل العراق او بلاد الشام ( سوريا الاردن) لاهل صنعاء وشمال اليمن. وجهة نظر .
* صيفاني : نوع من انواع الخناجر اليمنية المعروفة بقبضتها وزخرفتها بل يعتبر الخنجر علامة على الطبقات الاجتماعية من غني وفقير ومن منطقة الى اخرى بل من قبيلة الى اخر على نوع الخنجر.
* كلكل: الصدر للفرس والجمل وهو موضع البروك منه.
تعليقات
إرسال تعليق