يوميات معلم (يوم الزينة)
يوميات معلم ( يوم الزينة )
روى لي هذه القصة رجل سليم الضمير ، ذى باطن أصفى من الماء النمير ، انه معلم الأجيال صاحب ابتسامة الرضا ، كلامه يُعَدّ ، وصمته كالرد ، كثير التواجد والحضور لا يُذكَر أن حلَّ مكانه معلم احتياط ، ذو باع طويل في التعليم والتدريس ربى على ثلاثة عقود ، تواضعه جم وخلقه عم ، يقول الشاعر :
تَوَاضَعْ تكنْ كالبدرِ لاحَ لناظرٍ
على صفحاتِ الماءِ وهو رَفيعُ
ولا تكُ كالدخانِ يعلو تَجَبُّراً
على طبقاتِ الجَوِّ وهو وَضيعُ
إنه أبو عبدالله ، شيخ المعلمين وإمامهم ، كيف لا وقد دَلَفَ (سار به العمر) بين تلاميذه وطلابه زمنا طويل فاق فيه كل الزملاء ، فخاض الغِمار وانتزعَ الثِمار ، ولازال شعلة تتقد ، أسال الله العظيم أن يوفقه في كل خير يسلكه ، قال لي :
انفض اجتماع الهيئة التدريسية ، وتم الإتفاق على إقامة حفل تكريم لِأوائلِ الطلبة والمعلمين بمناسبة انتهاء العام الدراسي.
وزِّعَتْ المهام وجُمِعَ المال ، لِشراء الجوائز والهدايا. أجرى مدير المدرسة اتصالا نسَّقَ فيه مع راعي الحفل الذي سيكون الحفل على شرفه .
_ سأل احدهم : من الضيف ؟
_ قيل له : رجل مرموق ومدير حصيفٌ رصينٌ .
إنه المديرُ العام للتربية والتعليم . استشعرَ البعض بالفرحة والسرور ممزوجة بالتوتر و القلق ، فلا بد أن تظهرَ المدرسةُ بشكلٍ يليقُ بهذا الضيف.
حُدِّدَ الزمنُ و تم إعلام الطلابِ والمعلمين بهذه الإحتفالية .
حضور الطلاب كان نموذجيا ، أشبه بيوم الزينة حين حُشِرَ الناسُ ضحى .
هُيَّأتْ منصةُ التتويج و المقاعد للضيوف من أولياءِ الأمور وغيرهم . رُصّتِ الهدايا والجوائز وشهادات التكريم على طاولةٍ قد زُيّنَت بقماشٍ حريرٍ لَمّاع .
في الجهة المقابلة طلابٌ بين جالسٍ و واقفٍ يتخلَّلُ حشودهم بعض المعلمين.
كل شيء تم إعداده من مكبيرات الصوت و عبارات الترحيب والأعلام . طلبةُ الإدارة الذاتية يُنظمون ويستقبلون الضيوف مع المشرفين والمنظمين.
تأخر ضيف الشرف الذي سيُقامُ الحفل على شرفه بضع دقائق ، وبينما يجري المديرُ اتصالا ويتأكد من حضوره . دخلَ شابٌ متوسط القامة ، نظرَ في الملأِ من حوله ، فكل المقاعد قد شُغِرتْ ، ولم يبقى سوى كرسٍ وأحدٍ خالٍ ذي أذرع فارهة ، مخملي الملمس أسود الون يليق بضيف الشرف ، عن يمينه قعدَ مدير المدرسة وعن شماله رئيس مجلس الأباء ، تقدم الشاب وقد ملأته الفرحة السرور حتى استقرَّ على كرسي ضيف الشرف ، نظر لمن حوله ، وكأنه يقول فلنبدأ على بركة الله.
ظن البعض بأن راعي الحفل وصل ، لم يدم ذلك طويلا حتى طلب منه مدير المدرسة ان يترك هذا المعقد ، و ان يبحث عن مكان آخر على جنبات المنصة ، ولكنه رفض الإنصراف وأصر على البقاء ، تحولق حوله بعض المعلمين وإقناعه بالمغادرةِ قبل وصول الضيف . ولكنه أبَى واستكبر وتَشَبَّثَ بِمقعَدِهِ ، وأغلظ اليمين ألا يترك المكان إلا بجائزةٍ او هديةٍ مِمَّا صُفَّ أمامه ، رفضَ مشرفو الحفلِ وعَلَّلَوا بأن العدد محدود والجوائز موسومة بأسماء المكرمين.
وبين النقاش و إِحتَدمَ الجِدَال ، وصل ضيف الشرف.
اُدخِلَ مباشرةٌ الى غرفة مدير المدرسة وقيل له : بقي بعض الترتيبات البسيطة ! لعلهم يَجِدُون حلا سريعا في زحزحةِ المدعو (محُود) من مكانه ، نعم إنه محُود في بداياته البسيطة وان لم تك كذلك (كان ذلك قبل ان يجوب الشوارع والطرقات بدراجته النارية وتتفاقم حالته العقلية) .
وأخيرا نَزَلَتْ المدرسة عند رغبة الطرف الأول(محود). وبعد خذ وهات ، ثَارَت قضيةٌ اخرى وهي اختيار الطرف الأول نوع الجائزة ، وقد عَلِمَ من يعرف محود بأنه لم يك لِيُكْثر الحزَّ ويخطئ المَفصِل فوافقوا على الفورِ ، على أمل أن تنتهي هذه الأزمة بأقلِ الخسائرِ والحفاظ على ماء الوجه كما يقال قبل ان يستدرك المدير العام ما يجرى.
تم الإتفاق اخيرا على ان يخرج الأول من مكانه بجائزة واحدة فقط ، فوافق على مضض ، وكأنه يتمثل قول الشاعر:
كَدَحتُ بِأَظفاري وَأَعمَلتُ مِعوَلي
فَصادَفتُ جُلموداً مِنَ الصَخرِ أَملَسا.
ولكنه لم يصادف سوى صخرٍ لَيِّنٍ ، لقد استغل المكان والزمان ، وخرج منها بصندوق مغلف مستور ، يحمله بين يديه كأمٌّ أضاعت وليدها فألصقته الى صدرها ، ونصرف فرحا مسرورا. من يدري لمن كانت هذه الجائزة ستؤول قبل ذلك إلا علَّام الغيوب.
واخيرا تقدم ضيف الشرف على كرسي المخصص له وبدأَ الحفلُ بآياتٍ من الذكرِ الحكيم والتعوذ من كل شيطان رجيم.
ودمتم سالمين.
ملاحظة: قصة محود مرت معنا في يوميات مضت (مجنون في المدرسة ).
تعليقات
إرسال تعليق