يوميات معلم ((يوم عصيب))

 يوميات معلم

يومٌ عصيبٌ
هناك معلم جديد ، وكادر انضم  قريب ، سلك بالتدريس فسَلَك ، وثابر فيهِ فمَلَك ، خلوقٌ ذاع صيته ، حاز الرئاسةَ من بين أقرانه ، وكما يقال الحسود لا يسود.
على السبورة وقف ، كتب عنوان الدرس و أرَّخ.  وما هي الا لحظات وتفوح رائحة في المكان ، هناك غازات منفلته تعج و تلوف في غرفة الصف ، أهو تسرب مقصود ؟! او هو أمر معهود ؟! وما لبث ان رفع طالب يده  مستأذن بالخروج  ، وافق الاستاذ على الفور  ، و كما قيل  اذا عرف السبب بطل العجب ،  ولكن الرائحة لازالت تحوم في  المكان .
في الحقيقة استحى المعلم ( ابومسلم)  ان يقول للفاعل  أنِ اخرج  ولكنه تحمل بكتم أنفاسه ، حفاظا على مشاعر المتسبب  او  السخرية منه ، وها هو الفرج قريب ، اذ ان هناك يد اخرى تستاذن بالخروج ، لعله الفاعل الحقيقي هذه المرة ،  فوافق على الفور . ولكن ظلت النتيجة سلبية !
يقول ابن الرومي:
فاهرُبْ وأين بهاربٍ من طالبٍ
                 في كلِّ مُطَّلعٍ له مرصادُ

نعم هو كذلك ،فما هي الا  دقائق وخرج الطلاب تِباعاً دون إذن هذه المرة ، فتسابق  المعلم معهم مسرعا  الى خارج  الصف ، وهو يملأُ رئتيه بهواء نقيٍ ، وقبل ان يسألَ من حوله ، تعلو ضحكات الطلبه قائلين له إنه الطالب ( أ ) مصدر الغاز الخانق ، جالسٌ هناك في الصف  يتبسم .
الطالبُ (أ) لم يبالي بذلك او يهتم ، لإنه في الحقيقة وإن كان هادي فهو  بطئ الإستيعاب ، بدين الجسم ، يسيل الُعاب مراتٍ من شدقيه اذا تحدث ، فلا يدرك قُبْحِ فعله ، لخفةٍ في عقله. 
اعتاد الطالب ( أ )  الخروج من الصف دون اعتراض لأن وجوده عدد لا غير ، ولأنه هادي الطباع فلا حرج بخروجه ، يناديه مساعد المدير _كان يسمى حينها وكيل المدرسة _ الى مكتبه ، و يعلمه بعض الأحرفِ وكتباتِها لعله يستفيد فيتعلم ، الوكيل شخص تربويٌ مهذبٌ خلوق ، طيبٌ لأبعد درجة وأعلى مرتبه ، صادقٌ في عمله محبوب بين زملائيه.  فقد كان مشفق على الطالب (أ) مهتم بأمره حريصٌ على إفادته ، وكأنه أباه و أمه.
مرت الايام  و شاع خبر في المدرسة  بسطو بعض الطلبة على مقصف المدرسة مساءً ، سُرِقَتْ بعض العصايرِ و البسكويتات ، وإتلاف الاخر كالاجبان وغيرها .
لم يدم الأمر طويلا  حتى كُشِفَ المذنبون ، وظهر اسم الطالب (سالم) كأول متهم يُدان ، وهو اخ الطالب (أ) ولكنه اعقل منه وانحف ، و بالتمرد عُرِف ، وبالتسرب اتصف ، انعدمت رغبة لديه بالتعلم  ، ولكن مجبر اخ لا بطل كما يقال .
رغم تضافر الادلة و الشهود ، لم يعترف سالم بالتهمة.
اُستدعي ولي امر الطالب (سالم) للمدرسة  _وكنت حينها في المكتب _  جلس بجوار وكيل المدرسة  الطالب( أ ) كالعادة وهو يعلمه الأحرف وكيف ينطقها،  وفي الجهة المقابله يقف الطالب (سالم) في انتظار حضور الاب .

اقبل ولي امر الطالب(سالم) وقبل دخوله خرج ابنه (أ) من المكتب .
سأل ولي الامر عن سبب استدعاه ،  فاجابه وكيل المدرسة  بأن ابنه سالم سرق مقصف المدرسة مع بضع فتية - بينما كنت انظر في أوراق بين يدي -  اسمع دوي صفعة قويه بين الحاجب والخد ! مدوية من ولي الامر.
فلتفت مسرعا ، خوفا على الإبن من تعدد الضربات !
ولكن الصفعة لم تستقر إلا على وجه وكيل المدرسة !!!
قال الابُ الغاضب: ابني ما يسرق ، ابني مش حرامي.
عم الصمتُ للحظات ، انذهلت من الموقف وتجمدت في مكاني . وكيل المدرسة ، لم ينبس ببنت شفة ،بل قام وجلس ، فهو مصدوم مذهول ، لا يدري أكان  ذلك استحقاق اتهام بإبنه (سالم) او جزاء  اهتمامه بإبنه (أ) ؟!
لم تتطور الأحداث اكثر  من يد امتدت ، وأصوات انخرست ،
إلا صوتا واحدا  صدع ، وبالحقيقة صدح ، قائلا  بصوت عالٍ :  انا من سرق انا من سرق ! انه الإبن(سالم) ، معارض ابيه وفعله ،
الإب العجول ، قد قعص وحذم ، وفي القضية حكم .
وكما قيل :
أوردها سعد وسعد مشتمل
                   ما هكذا يا سعد تورد الإبل
العجيب انه لم يحرك ساكنا اتجاه ابنه المتهم المذنب.
بل قدم اعتذاره وبانه المخطئ ، وكتفى ونظر من حوله وهو مبهوت ، في عينه شرود وحيرة .
دخل بعض المعلمين المكتب ، وينهي ابو سالم( الوكيل) الامر قائلا : مسموح ويمكنك الإنصراف. اعترض بعض الغيورين من الأساتذةِ ، يطلبون  من وكيل المدرسة برفع شكوى ودعوى ، ضد ولي الأمر  ردعا و ورد للاعتبار ، فقالها مرار مسموح  ، وانت في حل.

اهو ضعف ، ام هوان ،  ام غبنه  شعر بها جزاء الإحسان في تعليم ابنه تبرعا منه وتفضلا ، ام تعالي وشموخ كالشجرة ترميها بحجر فترميك بثمر .

يقول الشاعر كريم العراقي :
كَمْ خَابَ ظَنّي بِمنِ أهديته ثِقتَي
فَأَجْبَرَتْنِي عَلَى هِجْرَانِهِ التُّهَمُ..
كَمْ صُرْتُ جِسْرًا لمَن أحببتهُ
فَمَشَى على ضلوعي وكم زَلَّت بهِ قدمُ
فَدَاسَ قَلْبي وكان القلبُ منزلهُ
فَمَا وَفَائِي لخِلٍّ مَالَهُ قَيمُ!
حينما نجهل نفشل ، والعجلة يعقبها  ندم ، فالحياة مكسبٌ ومغنم و دروس وعبر ..
دامت أوقاتكم عامرة بذكره مسبحة بحمده.

**********
قعص : هو الاسراع في القتل
حذم: الاسراع في القطع 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة العودة ح١ صنعاء

يوميات معلم (يوم الزينة)

يوميات معلم ...(( قاعة الإختبارات))