يوميات معلم (التمساح )

 

 يوميات معلم

( التمساح)
إن الحياةَ المدرسيةِ مرسمٌ ، تَرسَمُ فيه مستقبلك ومعملٌ تُشكِلُ فيه شخصيتك ، بالرغم بما فيها من ضُرُوب و وأختلاف ، فهي  مجتمع مصغر بما تحويه الكلمة من معنى ،  هناك الفقير والغني ، والضعيف والقوي ، المثابر والمشاكس ، الذكي والغبي ، المهرج والجاد ، ولأجل هذه المقدمة قصة و رواية..
دق جرس إنتهاء الإستراحة , وعلى كل طالبٍ في الساحةِ والممرات ومنافذ البيع التوجه إلى الصفوف مباشرة ، والا طار زمن المخصص للحصة الخامسة ، ولذا على المعلمين والمناوبين بالذات ، الانتشارُ والمُلاحَقَةُ  في استعجالِ دخول الطلبة ، الذين لا زال بعضهم في نشوةِ اللعب يسرحون ويمرحون ، وصار الأمر معتاداً كما يقال(روتيني) ، ولكن  الغريب ولغيرَ معتاد ، هو ذلك الشاب الذي يتباطأ في مشيته ، وكأن الامرُ لا يعنيه ، فقلت في نفسي سأتولى امره واجْعَلَهُ يُسرع الخُطَّى ، اذا لم يسعَ سعيا ،  فهذا أول تعين لي في هذه المدرسة ، اقتربت منه ودفعته دفعا يسيرا على كتفه أن امشِ ولا تعقبْ ، ولكن لم يحدث من ذلك شئٌ ، بل وقف وقال :  (لا تدف) اي لا  تدفع ، ونظرَ الي نظرةٍ ، جعلتني افكر واراجع حساباتي وضربتُ  اخماسا لأسداس ،  فقد كان في طولي تقربيا مفتول العضلات واشبه برجال العصابات ، قوي البنية في لحْيَيْهِ استطاله ، ليس بافطسٍ ولا فلفلي الشعر ، ولكن غلبته السمرة فقد صَحَرَتهُ وصَهَرَتهُ الشمسُ.
لم انبس ببنت شَفة ، ولم ازد على قولي : حسنا ، ولكن لا تتأخر.
رجعتُ القَهقَرى ، وسألت احد الطلبه الصِغار  ، كان يسعى بجانبي : من هذا ؟! قال : إنه التمساح.
فقلت الحمد الله ، انني لم اغامر ببسط هيبة معلم على ذلك الشاب ، واثبتُ له مقامَ المعلمِ والأستاذ ، وصدق من قال :
أن الغُصُونَ اذا قوَّمتَها اعتَدَلتْ،
ولن تلين اذا قومتها الخُشُبُ.
عرفت  فيما بعد إنه ليس له ولا عليه ، لا يَعتدِي ولا يُعتدَى عليه ، وجديرٌ بأن يسمى بالمتسامح ، جده جد وهزله جد وإن تكالبَ عليه الغلِمان رجعوا منكوسي الأعلام .
اخبرني احد الطلبه ممن حضروا الواقعة التاليه ،  بأن احد الأساتذة ( الإداريين) اراد تأديبه وكان يسمح حينها بالضرب في تعليم العام قبل الأساسي ، فاختارَ ثلاثةٌ  من أُولي العزم والقوة من التلاميذه ،  يوازنوه في الطول والبنية ، أنْ اضْرِبُوهُ واطْرِحُوهُ ارضا حتى يَكسرْ شوكةَ ويلينَ جانبه ،  فأتفقوا مع الخروج موعدا ، وقد أُعْطُوا الضوء الاخضر كي يرجع التمساح باللون الأحمر. وان يُخيِّمَ على العملية السرية التامة ، وبأن الحادثةَ  نزقٌ وخِفةُ عقلٍ.
ولكن حصل ما لم يكن بالحسبان، فقد رجع الابطال الثلاثة خايبين ، وكأنهم يتمثلون قول القائل :
سَبَكناهُ ونَحسَبُهُ لُجَيْناً ، 
فأبدَى الكِيرُ عن خَبَثِ الحديدِ.
فهذا قد قُطِعَت ثيابه وانكشف ذِراعهُ ، وذاك قد خُمْشَّ وخدِّشَ وجْهَهُ، وآخر كأنه خرج من قبرهِ ، وقالوا لكبيرهم الذي علمهم السحر قد كدت ان تُرُدِينا وفي المهالك تُؤَدَّينا ،  فلا سمعٌ لك ولا طاعة ، وليس لنا على التمساح استطاعه.
في الحقيقة لا اذكر اسمه لانه لم تطل به الدراسة حتى انقطع ولكن حتما سأسالُ عنه يوما  ما ، وما آل اليه المآل فقد كان ذلك قبل عقدين من الزمان ، والله المؤمل والمامؤل ، اذا طالت بنا الأعمار وقضى الله لذلك الميعاد ، فهو الحكيم المنان.
دمت سالمين ..



****
لُجين: الفضة.
صَحَرَ: بمعنى  كوى 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة العودة ح١ صنعاء

يوميات معلم (يوم الزينة)

يوميات معلم ...(( قاعة الإختبارات))