يوميات معلم    (ابتسامة جافة )

 توافدَ الطلابُ على المدرسة صباحا من كل حدبٍ وصوب ، فرادى وجماعات ، فمنهم المترجّلُ ومنهم الراكبُ.

وهناك من يراقب القادمين ، يقف على المدخل الرئيسي ، يحث السير بصمته ، ويضفي صرامةٍ و حزمٍ في صباح جديد ويوم دراسي يُرتجى منه الجد والإجتهاد.
اقبلَ  الطالب (ع)  مع أولُ الداخلين ،  كتبه بين يديه ، لُفتْ بشريط اشبه بالحزام ،  استوقفه المعلم _ المراقب على المدخل الرئيسي _  دون غيره قائلا : ايه انت ! اين كتبك؟ .
وقف الطالب ونظر من حوله وقال : انا ؟!
_المعلم: نعم ، انت . اين كتبك ؟!
_ الطالب : هذه بين يدي .
_ المعلم : اهذه كتب ! يبدو أنها ليس ليوم دراسي كامل ، هذه تلاثة كتب ، اين البقية ؟
وقبل ان يرد الطالب مجددا ، يقاطعه المعلم بقوله : اذهب من أمامي ، اكمل الطالب دربه دون ان يبرر موقفه ، فهو المعلم ، ولذا يقول شوقي :
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا
                        كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
لم يمر وقت طويل حتى جاءَ ولي امر الطالب (ع)  إلى المدرسةِ ، وسأل عن مستوى ابنه ، فوجد ذات المعلم ، اٌستُدِعىَ الإبنُ للمثولِ ، وعند الوصولِ قال المعلم :  أهذا هو أبنك ؟ للأسف ، لم يُحضر كُتُبَه ! حَمْلَقَ الابُ غاضبا ،
واردف الأستاذُ قائلا  :  اين كتبك يا ولد ؟  _ليظهر صدق قوله وإدِّعاءه _ اخرج الإبن  ثلاثةَ كتب فقط ، وفيه من الصدمة والهلع  الشديد مافيه ،  نظرات الاب كأنها تقول:
وما كنتُ أخشى أن تخيب ذريعتي
                    لديك إذا خابت لديك الذرائع
ولا يخفى عليكم ايها السادة الكرام بأن الضرب في تلك الازمنة،  هو أول الكي وآخره ، فهو علاج الإهمال الدراسي ، وممَّا زاد الطين بله كما يقال ، بان الكتب  لتي احضرها الطالب لم يك بينهن كتاب  الرياضيات او العربي او العلوم !! بل كانت لمواد المهارات الفردية.
حاول الإبن التبرير والدفاع ولكن هيهأت هيهأت ، اذا تكلم الكبار ، صمت الصغار ، فالسؤال الذي ينتظره ، اين بقية الكتب إذاً ؟!  ولمن  ادَّخرتها ؟!
تحاورَ الأبُ مع  الاستاذ لدقائقٍ  وهما يندَّدان بتغير مستوى الطلبة في هذه المرحلة ، فقال الأول للثاني : أستاذي هذا أبنك اضربه فأنت مخول لذلك.

من تلك اللحظات لم يتَحمَّلْ فيها الطالب (ع) ذلك المعلم الذي شَهَّرَ به ، ليس  أمام زملائيه فحسب ، بل وأمام ابيه الذي يُجله ايّما إجلال ، ويقدره ايَّما تقدير ، فقط حطَّم سارية الأمل فيه ، و إنْدَقَّ ساجه و تهاوى شراعه.
ألمْ يرَ منه  حسنة قط ، ام ارد إظاهر التقصير فقط.
مرت الايام والاعوام وتخرج الطالب (ع) من كلية التربية والتعليم معلما ،  عُيَّنَ الأستاذ (ع)  في مدرسةٍ كان مديرها هو  ذلك المعلم ، تصافحت ايدهما  وظل صفوهما مثل ملتقى الخافقين _ المشرق والمغرب _
كتبَ لي المعلم  (ع) ، هذه الكلمات التى سطرها بيده وبثَّ فيها مشاعره قال : ((.... سارت بي ذكريات قديمة إلى كل صباح حزين توجهت فيه إلى مبنى بِتُّ ولا زلتُ اكرهه ، مبنى المدرسة ! ومع كل ذلك كنت اعاهد نفسي ، وانفذ ذلك العهد أن أكون طالب مجد ومن ثم معلم مخلص وهكذا أرى الواقع.. ) انتهى كلامه .
زيارة مفاجاة
وقف الأستاذُ (ع) وهو يشرح درس العلوم ، قُرِعَ بابُ الصف ،  إنه مدير المدرسة يأتي لزيارةٍ إشرافيةٍ وفي يده كراسة وقلم ، قعد  على المقعد الخلفي  يقيم أداء من لم يكن معه كتاب العلوم  يومَ إن كان تلميذا  .
انتهت الحصة ولم يدوّن المدير ايَّ شاردةٍ او واردةٍ ، لعله يدّخِرُ ذلك النقاش بعد انتهاء الحصة ، ولكن لم يكن  شيء مما ذُكِر.
دَعَىَ مدير المدرسة  الى عقد  اجتماع دوري  الأول  للهيئة الإدارية و التدريسية ، وفي قاعة الإجتماع؛
تطرق المدير الى عدة مسائل إدارية وفنية ، في حينها سرح خيال الأستاذ ( ع) بعيدا  عن من حوله ، استرجع  تلك الذكريات العصيبه ، حينما اقبل أباه وسأل عن مستواه فكان كمن قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجة وذلك   لأمرين ؛  ان المعلم ( المدير الحالي) لم يكن يدرس الطالب (ع ) اصلا ،  ومن الإجحاف والضَيْم الحكمُ على ما لا تعرفه ، ولذا يقول الشاعر:
كل الجراحِ ستُنسى حينَ تلتئمُ
                  الا الجراح التي يأتي بها الكَلِمُ
جرحُ اللسانِ شديدٌ في مرارتهِ
                    يزدادُ سماً اذا ما خطَّهُ قلمُ
الامر الثاني؛ الكتب ( الثلاثة)  التي احضرها كانت لمواد سيدرسها الطالب في ذلك الحين ، وقد عَلِمَ مسبقا  بأن المواد الاساسية لن تدرس في ذلك اليوم . فهل يعد ذلك إهمالا أَمْ اهتماما ؟! ولكنه حكم جائر ، غير جائز ، تجاوز فيه تلك المشاعر  ليصل وجدان الأب.  يقول الناظم :
إِياكَ والظلم المبينَ إِنني
أرى الظلمَ يغشى بالرجلِ المغاشيا
استفاق الاستاذ(ع) من ذكرياته على صوت المدير وهو يذكر اسمه في قاعة الإجتماع  قائلا ؛ لقد دخلتُ زيارةً الى الأستاذ  (ع) بالأمس القريب ، فقد كانت حصة مثالية ، وأداء رائع ممتاز  ، اثار فيه الدافعية ، وحفز  الطلابَ ، واستخدم الوسيلة فأجاد وأفاد ، اتمنى من الجميع حذو حذوه  فهو نموذج مثالي . فله مني جزيل الشكر والامتنان . فتبسم الأستاذ(ع) ابتسامة جافة ، اظهر فيها الارتياح وان لم تنفتح اسارير قلبه و قال في نفسه: لقد تاخرت كثيرا يا استاذي في المدح والثناء.
  كَسَرْتَهُمُ كَسَرَ الزّجَاجَةِ بَعدَهُ،
               وَمَنْ يَجْبِرُ الوَهْيَ الذي أنتَ كاسرُهْ
فكم كلمة اردَّتْ ، وكم كلمة مَدًّت .
الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فإصدار الاحكام لا يكون الا على بينة وليس الظنون والتصورات.
دمتم في آمان الله ورعايته.



______________

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة العودة ح١ صنعاء

يوميات معلم (يوم الزينة)

يوميات معلم ...(( قاعة الإختبارات))