يوميات معلم . ((التكريم))

 يوميات معلم

إنَّ للتكريمِ أَثَرٌ عميقٌ في نفس المعلمِ من عدَّةِ أوْجُهٍ فهو ؛ تقديرٌ وتثمينٌ لِجهدهِ وأعماله ، إذ أن النجاحَ الحقيقيُّ للمعلمِ  هو النجاح الفعِليُّ  لِتلاميذه وطلابهِ ، فهم باكورةُ إنجازاته ، فما أجملَ تلك الحظات التي يُكرَّمُ فيه المعلم من الهئية التدريسية ، ولكن اخي العزيز ، ما أروع وما أبلغ من تكريمٍ يأتي من أبنائك الطلبة ، فتلك لا تقاسُ بتلك ، وشَتَّانَ بين الأمرين وفي كلٍ خير .
الاولى( من الإدارة المدرسية ) دليلٌ على الانضباطِ و جودةِ العملِ والأتقانِ  .
الثانية(من الأباء والأبناء) دليلٌ على الأثر العميق الذي خلَّفَهُ المعلم من خلقٍ وعِلمٍ ، إخضرتْ أغصانه وأينعتْ ثِمارهُ ، فلامسَ قلوبَ الصِغار وعزف عليها  الألحان ، فتَاقَت أنفسهم  لتكريمه وحثوَا أبائهِم على البذل والعطاء .

أبوعامر (س) نال ذلك التكريم  ، فقد كان قريب من طلابه ، هادي الطباع ، متواضع مثابر ، فلا غرابة ان يُكرَّمَ مرتين ، وأن ينالَ الأجرين. وصدق من قال :
      تَوَاضَعْ تكنْ كالبدرِ لاحَ لناظرٍ
             على صفحاتِ الماءِ وهو رَفيعُ
لم يخطْ  الشيبُ رأسه ، ليس بشحيمٍ ولا نحيفٍ ، وسيط القامة ، فرغم صغر سنه فقد تجاوز غيره ، اذا حسرَ عن رأسه لم تُميَّزهُ بين طلابه .
ترك أبوعامر إنطباعا وصورةً ذهنية عند طلابه  من أول لقاء ، ويُقال إن “الانطباع الأول يدوم”.
فما أجمل أن تنادي في أول لقاء كل تلميذٍ باسمه ،  خذ قائمةَ الاسماء بين يديك  ، حدد بعض الصفات ( سلبا كانت او ايجابا ) مستفيدا  ممن سبقك في ذلك الصف قائلا ومحفزا :  اين فلان ... ؟ ماشاء الله تبارك الله ،  اذا انت فلان ...  سمعت عنك كل خير ، وانت عرفتُ أنك مهتم ولاعب حرّيف او قارئٌ حاذق  ، او ماهر في الحساب ، او قوي الذاكرة  ،او مستمع جيد ، ولو لم تجد الا  زيه او لابسه فمتدحه .. . لخ . فإن تذكرَ  الأسم وذِكره  يَشدُّ الاذهان ويقوي البنيان.
فالطلاب هم المحك ، في زمنٍ  تتلاطم امواجه ، حارَ فيه الكبير وشاخ فيه الصغير ، فالأداءُ الحسنُ هو دفَّةُ السفينة ،  والوصول بر الأمان هو المحصلة و النتيجة.

الطالبَ(ع) ، طالما اثار الفوضى والازعاج ، ولكنه هذه المرة  يختصَّه الاستاذ ابوعامر  بحديث جانبي لا يخلو من مدح وثناء ونصح وإرشاد ، الطالب (ع) عنيد غير مُبالٍ ، كثيرُ الحركةِ مثيرُ الشغبِ ، ابتهجت اسارير التلميذ بذلك الثناء ، فقلَّما يسمعُ عبارات الاطراء ، جُلَّ ما يسمعه لا يسر البال ، ولا يبهج الخاطر ، فقد تكون  تلك العبارات - التنقيص - حق فيه ، ولكنها جرح يدميه وإن أبدى ما لم يبديه. فكم كلمة ادمت ، و في القلب بقيت.
دخل الأستاذ ابوعامر الصف السابع ، التزمَ الطالبُ (ع) بآداب الجلوس والإنصات ، ولكن ذلك لم يدم طويلا فقد انتهى مفعول المديح ، وعادت المياة لمجاريها ، يخذف أقرانه ، ويتحرك من مكانه ، الطبعُ غلابٌ وكما يُقال :
مَنْ يتطبعْ بغيرِ طبعٍ  يرجع صفراً إلى الطبيعَةِ.
وقبل ختام الدرس  ، لفت الأستاذ إنتباه الطلبة ، قائلا: اود ان اشكر الطالب (ع) على هدوءه واهتمامه،  فقد اوفى بما عاهد !  انصدم (ع) بما قاله الأستاذ !!!  فأدرك الغاية ، وجدَّد الطوية ، والحليم تكفيه الإشارة. يقول الشاعر:
     تجنَّبِ الوعدَ يوماً أن تفوهَ به
                           فإِن وعدتَ فلا يذمَّمكَ إِنجازُ
     واصمتْ فإِن كلامَ المرءِ يهلكهُ
                            وإِن نطقْتَ فإِفصاحٌ وإِجازُ
في ذات الصف سقط الطالب ( س) ارضا مُغمىً  عليه ، هرع الأستاذُ مسرعا الى رفعه ، عمت الضوضاء المكان بين قائلا ، لعله هادم اللذات ، فقد ارتخت اليدين ، وثَقُلَ البدن ،
لم يدرِ ما يفعل ابوعامر ، فلم يعهد تلك المواقف ولم يدرِ ما الحيلةُ ؟!

الحالةُ ستدعي نقله من الصف .. يتأكد بعض الطلبة من أنفاس الطالب وجس نبضه ، رفع الأستاذ الكتفين و طلب من بعض الطلبة الإمساك بالرجلين ، لازال هناك أملٌ ، عجلُّوا  بالاسعاف وخرجوا به مسرعين ، وفي منتصف الطريق وقبل الوصول حصل ما لم يكن في الحسبان ، لم تكن هناك انفاس ، بل تَبَسَّم الطالب (س) ضاحكا و قال : شكرا على التوصيل !
وقف الجميع  مذهولين ، أيبرحوه ضربا؟!  او يتركوه حمدا بأن ذلك لم يكن حقا ؟!  ولى الطالبُ مدبرا  متفادياً  حذاء ( احد زملائيه)  كاد ان يلتصق بظهره.
وفي الختام  اقول دوام الحال من المحال ، ابذل ما تستطيع ، ودع العباد لرب العباد بعد النصح والإرشاد ، فكلٍ مجازٍ عند مولاه ، وتذكر  قول الله تعالى وما ربك بظلام للعبيد.

********
يخذف : يرمي بحصى صغيرة بين الأصابع.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة العودة ح١ صنعاء

يوميات معلم (يوم الزينة)

يوميات معلم ...(( قاعة الإختبارات))