يوميات معلم (( البصمات))
يوميات معلم.
افترَّ الصبح عن نواجذه ، و دبتْ الحياةُ في المدينة ، تزاحمت المركبات على الطرقات ، سعيا للوصول في الوقت المناسب الى أعمالها ودوائرها ، وها هي المدرسة كغيرها ، تستقبل مرتاديها ومريديها . وصلت متأخرا هذه المرة ، دخلت مكتب مدير المدرسة ، فهناك دفتر الحضور والتوقيع . يقول المدير : ارجو منك التبكير وعدم التأخير.
ذكرت له الاسباب ، هي هي نفسها زحمة السير وظروف عائلية ، وبينما أهمُّ بالخروج ، لفت انتباهي جهاز صغير الحجم اشبه بمسجل ناشيونال قديم الطراز ، برتقالي اللون ، للمربع شكله اقرب ، لم ارَ مثله من قبل ، سألت المدير (ابوبندر) : ما هذا؟
اجاب: جهاز عرض ( بروجكتر )نوع جديد.
فقلت : عجيب وغريب .وانقدحت في ذهني فكرة ، وخاصة مع ظاهرة اعمال الشغب وتكسير مفاتيح الاضاءة والمراوح التي باتت تتكرر من طلبة الصف الثالث الاعدادي.
الفكرة ؛ سيكون الجهاز الجديد الذي لم يسبق ان راه احد في المدرسة ، جهاز كشف البصمات ، نعم.
اخبرت المدير بالحيلة وهي تمثيل دور مكتب البحث الجنائي في معرفة المدانين .بارك المدير الفكرةَ قائلا : من معه حيلةً فليحتل.
ولكن متى ومن هو الرجل المناسب لذلك الدور؟
الى الان لا يخطر على البالِ احد.
دخلت الصف الثالث الاعدادي وهو يعتبر المرحلة الاخيرة في المدرسة فهم القدوة لبقية المراحل .
اول ما تراه في الصف هي تلك المراوح وقد انحنت اطرافها ، وكأنها شجرة ذبلت اغصانها او حاجبي الحارث بن عباد وقد اسْتَقَرَّا على جفنيه ، فَيْشُدُّهما للأعلى .
سألت الطلبة : لم العبث بالمراوح ، وما الفائدة من ذلك سوى الخرابِ ؟! و من هو المسبب لهذا ؟ اتمنى الاعتراف قبل ان يتخذ المدير القرار ، ويستدعي اهل الخبرة والفِطنَة.
يعم السكون المكان ، ولا جواب ، وكيف تجد الردَّ ، و الواشي لا مقام له ولا كرامة ، حقٌ اريد به باطل ، و حماقة أريد بها جَسارَة .
والعجيب ان يقوم الفاعل فيهم واعظا وخطيبا ، وناصحا ومرشدا ، يفض عن نفسه غبار التهمةِ ، ويرتدي جلباب الحكمة.
قلت : المهم اسمعوني جيدا ، اذا لم تعترفوا فالمدير سيتصل بخبير البصمات ، والمذنب سيكون جزاؤه وخيم غير حميد. فالاعتراف فضيلة والكذب ريبة ، وقد احسن من قال :
تعلموا الصدق والإيمان وارتدعوا
إن كان يعجبكم صدق وإيمان
يعم الصمت المكان ، ولا مُبالاة لما تبديه من كلام ، فلا مواعظ انفع ، ولا تهديدُ انجع ، وكيف تنفعُ الشمسُ وضوءُ العينِ ممنوعُ!
إنَّ غداً لناظِرِهِ قريبٌ ، عبارة ختمت فيها كلامي ونصرفتُ.
رجعت الى الشقة التى سكنتها منذو سته أشهر تقريبا ، في صلالة الجديدة ، قابلت ابوهيثم ، ونعم الجار، رجل في الخمسينيِّات من عمره ، مهندم وانيق ، يعمل سكرتير مدير عام لإدارة حكومية ، فهو من يسكن في الشقة العلوية فهو مالك الدار .
بعد التحية وكيف الحال ، أخبرته بالفكرة والرأي ، وبأن يأتي في الصباح الباكر ويحضر الطابور الصباحي وسيكون ممسكا بجهاز كشف البصمات ( جهاز العرض ).فما عليه الا ان يدخل غرفة الدراسة بعد اخراج الطلبة لمدة دقايق ويمكنه العودة بعدها الى عمله.
وافق بكل سرور .
اليوم التالي:
في الطابور الصباحي وقف الجميع ، وصار الضيف هناك مقابل منصة تحية العلم ، يقف مع بقية المعلمين ، حضوره شدُّ الإنتباه في احدى يديه جهاز غريب ، وبدت علامات الارتباك على الطلبة ، فهناك أيادي بريئه لامست وحاولت اعادة اذرع المراوح لسابق عهدها ، وربما تكون هي محل اتهام كقول الشاعر:
ولربما ماخوذ بذنب عشيرة
ونجى المقارف صحاب الذنبِ
ينتهي الطابور الصباحي ، ويدخل الخبير الفني المزعوم الى غرفة المدير في حين يتم تهيئة المكان واخلاء الطلبة من القاعة الدراسية .
معلم الحصة الأولى في ذلك الصف ابوسلامة رحمه الله رحمة الأبرار واسكنه مع الأخيار ، انطلت عليه الحيلة ، حينما دخلت على الصف ، وطلبت منهم إخراج اوراق بيضاء مُوسمة بأسمائهم ، ويضع كل طالب يديه على ورقته ، كي يتم المقارنة بينها وبين البصمات الواقعة على المراوح ومفاتيح الإضاءة .
يصر ابوسلامة على الحضور ومعرفة كيف تسير الأمور، ولكنني اقنعته بالخروج ، مخافة الإشعاع والتصوير ، بل هي رغبة الضيف وخبير البصمات.
جلسنا نتبادل اطراف الحديث لبضعة دقايق وانتهينا ، شكرت لابي هيثم اهتمامه واستجابته في الحضور وتمثيل الدور.
النتائج:
انتهت عمليات الشغب والتمرد في تخريب الممتلكات العامة بنسبة كبيرة ، وكيف تنتهي بالجملة ! وانت في القرض (منطقة) وما ادراك ما القرض ماردٌ لا يروضُ الا بحيلة.
كثير من الطلبة يسألون عن اخر المستجدات والنتائج والبصمات ، فكان الجواب ؛ مازال التحقيق جاريا و هناك بعض الأسماء تلوح في الأفق ، فلان وفلان أول الاسماء ، فينبهر الاولاد بسحر الجهاز ، وهم لا يعلمون بأن من ذكرتهم اصلا هم اهل التشغيب والفوضاء فهل يصح في الاذهان شيء اذا احتاج النهار الى دليلٍ .
دمتم سالمين .
تعليقات
إرسال تعليق