ذاكرة الصبا ضيوفنا الاعزاء

من ذاكرة الصِبا.
في يوم من الايام ، وقبل بزوغ الفجر ، وفي الغلس الأول ، اسمعُ حواراً من تحت لِحافي الذي لُفَ باحكامٍ . ورغم ذلك مازال قطار النوم يجر عرباته على سكة اهدابي ، يثقل به الجفن ويصعب رفعه ، كل ذلك من اجل ان اعرف مصدر هذا الحوار وفي هذا التوقيت بالذات الذي يحلو فيه السُبات ويربتُ فيه ابومرة على القافية.
كما قيل ، النوم سلطان ، ولكن ينتابُني الفضول ، فلا بأس من التخمين.
لعلهم الضيوف الذين وصلوا لليلة البارحة ، اعمارهم بين الخمسين والستين ، تعلو رؤوسهم الشيَب المخضوب بالحناء ، الظاهر من اطراف العمائم ، احدهم حاسر الرأس، اشعث الشعر ، لا ينفع (هيد اند شولدرز ) في فك تشابكه !
اختلستُ نظرةً فلم يعد للنوم مكان بعد إرتفاع الاصوات وكأنني في معادلة طرديه كلما انعسعس الليل و انجلى النهار ازدادت اطراف الحوار .
نعم هذا العم ابو نورة ، اكاد اراه في عتمة الفجر الاول ، يتصاعد دخان التبغ الكثيف من غليونه المصنوع يدويا ، القابع بين ابهامه وسبابته ، دخانٌ كثيف يَحجِبُ من كان بجانبه وكأنه ضباب منتصف الخريف ، تتسع حدقة عيني لأرى من بجواره ، نعم ، انه العم سعيد بن جمعة رحمه الله وهو يرتشف الشاي بصوت عالٍ .يقابلهما العم سالم طوه ، ورابع لا اذكره.
كالمعتاد ، هو موسم العَيْد المجفف ( السردين) المرغوب فيه علفا للحيوانات والابل خاصة . و من اجل ذلك يقطع هؤلاء الرجال رحلة شاقة ، بين وعورة الجبال وتكسرات الاوديه ، قادمين من منطقة حوف الى الغيظه في سيارة لاند كروزر قاهرة الطرقات ومع ذلك لا بد لها من محطة تتوقف فيها بعد كل صعود شاهق !
كم نشعر بالاُنسْ وطابع فريد حينما يحل هؤلاء ضيوف علينا على رغم من ضيق المكان فدارنا حجرتان متعامدتان ، بينهما فناء يعرف ب ( الدكة ) فهي المكان المفضل في وقت الاصيل! وفي حلول المساء! يحلو فيه السمر ، بل يفضل البعض هذا المكان للرقاد في موسم الصيف ، فالتيار الكهربائي ، قد حُدِدَ له فترةٌ وجيزةُ من النهار .
يقول احدهم: الله يسهل علينا ، ويُعِننا على جنبين( لقب لاحد الباعة الحضارم ).
حوار لطيف لا يخلو من دعابة يملؤها التفأول والتوكل.
وجهتهم هي شاطئ محيفيف المعروف بالعَيد المجفف ، التي تبعد ١٥ كليو متر في الجنوب الشرقي للعاصمة الغيضة.
قومُ التبكير هو طابعهم وسلوك حياتهم ، في الرعي و القيام بشؤون حياتهم الريفيه ، ولذا تدبُ الحياة ويسرى النشاط في اركان المكان بوجودهم !
حين يرجعون ياتون باخبارهم ومواقفهم مع الباعة وهاهو السردين الطازج معهم ، فضي اللون ، متوسط الحجم ، تُظِهر ما تخفيه من سمنه ، فهو ايدام لهذا اليوم .
أمي حفظها الله ، بارعة في شوي السردين المصفوف على جريد النخل المدبب ( مشكاك) والمار من خياشم السردين ، الى فمها ، ثم توضع عموديا في التنور.

من خارج سور البيت وقبل الظهيرة، استطيع رؤية شاحنة كبيره من نوع قاز ٦٦ او فيات لم اكن نهتم بأنواع وأسماء السيارات حينها.
تتوقف ويترجل منها رجل اربعيني ، فيه من الطول والسمنه ما يناسبه ، يرتدي قميص قصير الكُم ذو اربعة جيوب و إزار الى نصف الساق ، اجحظ العينين عريض المنكبين ، لا يعرف للمجاملات طريقا ولا سبيلا . تطبع بطباع عمله الشاق في شق الطرقات وقيادة الآليات ، ولكن يخفي في أعماق قلبه قلب حنون اذا عزفت عليه اوتار الرقه والشفقه استدرت دموعه!
يقول احد اخواني راكضا الى الداخل : جاء .. جاء ..
وقبل ان يسلم يقف و يحدق في الجلوس وبين شفتيه قطعة عريضه من لفة السيجارة (ورق الشام ، محشو بالتبغ وايت فوكس ). يقلب ناظريه في الحضور وقبل السلام يقول لهم : قولوا آمين ... ثم يدعو بدعوات على الاعداء ومن لم يَطِبْ له من غيرهم... ويصدق قول الشاعر فيه :
منْ ذادَ عنها نخوة ً لمْ يخشَ منْ
عَنَتِ العِتَابِ وَلاَ مَلاَمِ اللُّوَّمِ ،

العجيب ان ابونعيم يستطيع ان يتحدث ويناقش ، بل ويكركر بضحكاته ، ولفافة السيجار في فيه !!!
تقول امي : هل تنتظر احمد او نقدم لك الغداء ؟
ابونعيم( ينظر إلى ساعته): ننتظر افضل .
ماهي الا دقائق ويقبل ابي من العمل ، وعندما يرى ابونعيم يقول : هلا هلا ابوجناحين!
ابو نعيم : امسك الكرسي جيدا ، وارفع للحكومة راسها! ( يقصد بذلك ان ابي حفظه الله كان ملتزم بداومه ، منضبطا ، محبا ، مخلصا ، لعمله).
مشهد آخر:
بعد صلاة العصر ، وعلى فئ الدار يدور هذا الحوار .
أبي : لا تحرك تلك القطعة! فهي تكشف عن مربع الملك !!
يقول الذي يقابله على رقعة الشطرنج ،
(متذمرا) : تقبر قبرا لبيلوت!!
( هي دعوة بالمهري لم اسمعها ! ولن اسمعها! الا منه ).
هو صديق ابي و العائله ، شاعر مفلقٌ ، قصير القامه ، جمع بين رمال البوادي ، وقمم الأرياف ، من لم يعرفه فلا يلقي له بال ، ولكنه جميل المخابر ، قوي الذاكره ، خفيف الظل ، عسكري و تربوي في مهامه.
كقول الشاعر :
عكس الأنامُ فإنْ سمعتَ بناقصٍ،
فاعلمْ بأنَّ لديهِ حظاً زائدَ ،
يقول ابي : العب فقد اطلتَ النظرَ ، ومللتُ الانتِظارَ !!
يرد ابومحمد : وي ياحوه وي ياحوه( بالمهري مرة أخرى ) يبدو بأنه لا خيارات لديه ، في تحريك قطع الشطرنج ، فقد حُصِرَ حتما !
احمد العقيد : لعبك ظالم !!! (ويقلب الطاولة رأسا على عقب ! ويطالب باعادة العب )
في المقابل تتوعد امي بتحطيم هذه القطع الصماء التي اطبقت افواه الاعبَيْن ، واحلت بالدار السكون في وقت يحلو فيه الحديث ويستفيد الحاضرون.
ذكريات جميلة جدا ، والجميل فيها بساطتها وقلة التكلفة، وكنت حينها اظن ان كل من يأتينا هم اقاربنا في النسب ، بل هم كذلك لما نراه من الألفة والتعاون ، على رغم اختلاف قبائلهم.
يقول ابو فراس الحمداني:

وَأُوسَعُ، أيّاً مَا حَلَلْتُ، كَرَامَة ً،
كأنني منْ اهلي  نقلتُ إلى أهلي،

في الحلقة القادمة تلفزيون الحارة
















تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلة العودة ح١ صنعاء

يوميات معلم (يوم الزينة)

يوميات معلم ...(( قاعة الإختبارات))